فصل: تفسير الآيات رقم (7- 14)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير ***


سورة الأحقاف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ‏(‏3‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏4‏)‏ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ‏(‏5‏)‏ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

أجل مسمى‏:‏ يوم القيامة‏.‏ أُنذِروا‏:‏ اعلِموا وخوفوا‏.‏ تدْعون‏:‏ تعبدون‏.‏ أم لهم شِرك‏:‏ ام لهم نصيب‏.‏ او أثارة من علم‏:‏ بقية من علم‏.‏ واذا حشِر الناس‏:‏ اذا جمعوا يوم القيامة‏.‏

افتتحت سورة الاحقاف بحرفين من حروف الهجاء مثل كثير من السور غيرها وقد تقدم الكلام على ذلك، وكذلك نص الآية ‏{‏تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم‏}‏ مثل افتتاح سورة الجاثية‏.‏

ما خلقْنا هذا الكونَ العديب الا على نواميس ثابتة، وحكمة بالغة، والى أمد معين هو يوم القيامة‏.‏‏.‏ أما الذين كفروا بالله ورسله فهم معرِضون عما أُنذِروا به من انهم يبعثون بعد الموت للحساب والجزاء‏.‏

ثم يردّ اللهُ تعالى على من يعبد غيره من المشركين فيأمر الرسولَ الكريم أن يقول لهم‏:‏ أخبِروني عن آلهتكم التي تعبدونها من دون الله‏؟‏ هل خلقوا شيئاَ في هذه الدنيا، ام أنهم شاركوا في خلْق السموات‏؟‏ انْ كان ما تدّعون حقا فأْتوني بكتابٍ من قبل هذا القرآن، او أي أثرٍ من عِلم الأولين تستندون اليه في دعواكم ‏{‏إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏‏.‏

وأيّ ضلالٍ أكبر ممن يعبد معبوداتٍ لا تسمع ولا تنطق ولا تستجيب أبدا‏!‏ والمشركون مع ذلك غافلون عن هذه الحقيقة‏.‏

حين يُجمع الناس للحساب يوم القيامة تتبرأ هؤلاء المعبودات من المشركين وتغدو أعداء لمن عبدوهم ‏{‏وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ‏}‏ ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 81-82‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 12‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏7‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏8‏)‏ قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏9‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏10‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ‏(‏11‏)‏ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

للحق‏:‏ للقرآن‏.‏ افتراه‏:‏ كذب به‏.‏ فلا تملكون لي من الله شيئا‏:‏ لا تغنون عني شيئا ان اراد الله عقابي‏.‏ تفيضون فيه‏:‏ تخوضون في من تكذيب لقرآن‏.‏ ما كنتُ بدعا من الرسُل‏:‏ هناك قبلي رسل كثير، فما أنا أول رسول لا مثيل لي‏.‏

بعد أن قرر الله تعالى وحدانيته وثبّتها، ونفى الأضدادَ وكل ما يُعبد غيره- يقرر هنا أن رسالة سيدنا محمد حق، وان الرسول كلّما تلا على مشركي قومه شيئا من القرآن قالوا إنه سِحر، بل زادوا في تكذيبه فقالوا انه افتراه‏.‏ ويردّ الله عليهم بأنه لو افتراه على الله فمن يمنع الله من عقابه‏!‏‏!‏ والله هو العليم بما يخوضون فيه من أحاديث وتكذيب‏!‏

‏{‏كفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الغفور الرحيم‏}‏‏.‏

كفى بالله شهيداً لي بالصدق، وشهيداً عليكم بالكذب‏.‏ ثم يجيء التعقيب اللطيف‏:‏ ‏{‏كفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الغفور الرحيم‏}‏‏.‏

كفى بالله شهيداً لي بالصدق، وشهيداً عليكم بالكذب‏.‏ ثم يجيء التعقيب اللطيف‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الغفور الرحيم‏}‏ فان الله مع كل هذا الكفر والعناد من المشركين يُبقي بابَ التوبة والمغفرة والرحمة مفتوحاً دائما، فلا يقنط من رحمته أحد‏.‏

ثم يأمر رسولَه الكريم أن يقول لهم‏:‏ إني لستُ أول رسول من عند الله فتنكروا رسالتي، ولست أعلمُ ما يفعل الله بي ولا بكم، وما أتّبع فيما أقول أو أفعل إلاّ ما يوحيه إليّ الله ‏{‏وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ‏}‏‏.‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ فَآمَنَ واستكبرتم إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين‏}‏‏.‏

يقول معظم المفسّرين‏:‏ إن هذه الآية بالذات مدنية، قد نزلت في عبدِ الله بن سَلام، وكان من أكبرِ علماءِ بني إسرائيل، أسلم بالمدينة، وأحدثَ إسلامُه ضَجّةً عند اليهود، وقصتُه طويلة يُرجَع إليها في كتب الحديث والسيرة‏.‏

ويكون المعنى‏:‏ قل لهم أيها الرسول‏:‏ أخبِروني إن ثبتَ أنّ القرآنَ حقٌّ من عند الله، وآمن به عالِمٌ من بني إسرائيل كعبد الله بن سلام الذي يُدرك أسرارَ الوحي ويشهد ان القرآن من عند الله كالتوراة التي أَنزلها على موسى‏.‏‏.‏‏.‏ ماذا يكون حالُكم إذا بقيتم على ضلالِكم وكفركم‏؟‏ افلا تكونون من الظالمين‏؟‏‏.‏

وقال جماعة من المفسرين‏:‏ ان الشاهدَ موسى بن عمران، وان التوراة مثلُ القرآن كلاهما من عند الله، وان موسى شهِدَ على التوراة، ومحمدٌ شهِدَ على القرآن صلى الله عليهما وسلم‏.‏ وهذا ما يُرجِّحه الطبري، لأن السورة مكية، فيما اسلم عبد الله بن سلام بالمدينة بعد الهجرة‏.‏

ثم حكى عن المشركين شُبهةً أخرى بشأن إيمان من آمَنَ من المسلمين من الفقراء كَعَمّار وصُهَيب وابنِ مسعود وغيرِهم فقالوا‏:‏ لو كانَ هذا الدينُ خيراً ما سبَقَنا إليه هؤلاء الضعفاءُ من الناس، وانما قرآن محمد افكٌ قديم من أساطير الاولين‏.‏

وقد ردّ الله عليهم طَعْنَهم هذا في القرآن وأثبت صحته فقال‏:‏

‏{‏وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إِمَاماً وَرَحْمَةً وهذا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الذين ظَلَمُواْ وبشرى لِلْمُحْسِنِينَ‏}‏‏.‏

القرآن كالتوراة التي نزلت على موسى، كلٌّ منهما إمامٌ ورحمةٌ لمن آمن به وعمِلَ بموجبه، وقد بشَّرت التوراةُ بسيّدنا محمد‏:‏ ‏{‏الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل يَأْمُرُهُم بالمعروف وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏‏.‏ وهذا القرآنُ مصدِّق بالتوراة وما قبلَه من الكتب، وينطِق بلسانكم أيها العربُ، وينذِرُ من أساءَ بالعذاب، ويبشّر من أحسنَ بالثواب، فكيف يكون إفكاً قديماً، وسحرا وأساطير‏؟‏

قراءات‏:‏

قرأ نافع وابن عامر ويعقوب وابن كثير‏:‏ لتنذر بالتاء‏.‏ والباقون‏:‏ بالياء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 16‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏13‏)‏ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏14‏)‏ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏15‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

وصّينا الانسان‏:‏ أمرناه أن يفعل كذا‏.‏‏.‏ ومثله أوصاه‏.‏ كُرها‏:‏ بضم الكاف وفتحها‏:‏ مشقة‏.‏ حَمْله وفصاله‏:‏ مدة حَمْلِه وفطامه‏.‏ أشده‏:‏ صار بالغا مستحكما القوة والعقل‏.‏ أوزِعني‏:‏ ألهِمني، رغّبني، وفقني‏.‏ أصلحْ لي في ذريتي‏:‏ اجعل لي خلَفاً صالحا‏.‏ في أصحاب الجنة‏:‏ يدخلون الجنة مع الذين انعم الله عليهمز

ان الذين قالوا ربُّنا الله الذي لا إله غيره، ثم أحسَنوا العملَ واستقاموا عليه بإيمان كامل، لا خوفٌ عليهم من فزعِ يوم القيامة وأهواله، وهُم لا يحزنون على ما خلّفا وراءهم بعد مماتهم، أولئك هُم أهلُ الجنة خالدين فيها، ثواباً لهم من الله على أعمالهم الصالحة التي ك انوا يعملونها في الدنيا‏.‏ وهذه أحسنُ بُشرى يزفُّها القرآن الكريم للمحسنين، فهنيئا لهم‏.‏

ثم تأتي الوصيّة بالوالدَين، وقد وردت التوصية بهما في غير آيةٍ لِما للوالدَين من منزلةٍ كبيرة وكريمة في وجود الانسان‏.‏

ووصّينا الانسانَ بأن يحسِن إلى والديه ويبرَّهما في حياتهما وبعد مماتهما، وخصَّ الأمَّ بالكلام لأنها تقاسي في حمله مشقةً وتعبا، وفي وضعه آلاماً كثيرة، ثم في إرضاعه وتربيته‏.‏ فالطفلُ يقضي معظم وقتِه مع أمهِ، وفي رعايتها وحنانها وعطفها‏.‏‏.‏ لهذا كلّه تستحقّ الكرامةَ وجميل الصحبة والبر العظيم‏.‏ وقد وردت احاديث كثيرة تحثّ على بِرّ الأمهات‏.‏

روى الترمذي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أمَّكَ ثم أمك ثم أمك، ثم أباك» ورواه أحمد وابو داود والحاكم عن معاوية بن حيدة‏.‏

وهناك حديث مشهور‏:‏ «الجنّةُ تحت أقدام الأمهات» رواه الخطيب والقضاعي عن أنسٍ رضي الله عنه، وروي أيضاً عن ابنِ عباس رضي الله عنه‏.‏

وعن ابي أمامة رضي الله عنه أن النبي قال لرجلٍ يسأله عن حقوق الوالدين‏:‏ «هما جنَّتاك وناراك» وفي البخاري ومُسْلم والترمذي‏:‏ «أحقُّ الناسِ بالصحبة الأم» والأحاديثُ كثيرة يمكن الرجوع اليها في كتب الحديث‏.‏

‏{‏وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً‏}‏

يعني إن مدة الحمل والفطام ثلاثون شهرا، تكابد الأم فيها الآلامَ الجسمية والنفسية، فتسهَرُ الليالي العديدةَ على طفلها، وتغذّيه وتقوم بجميع شئونه بلا ضَجَر ولا ملل‏.‏

ويؤخذ من هذه الآية ‏{‏وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً‏}‏ ومن الآية‏:‏ ‏{‏والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏ أنّ أقلَّ مدة الحمل ستةُ أشهرٍ فاذا ولدت امرأة ولداً بعد ستة أشهر من دخولها في عصمة الزوج يُعترف به‏.‏

حتى اذا بلغ كمالَ قوّته وعقله ببلوغه أربعين سنةً، ويكون في كامل قواه الجسمية والعقلية، يقول عندها‏:‏ ربِّ ألهِمني شُكرَ نعمتك التي تفضّلتَ بها عليّ وعلى والديّ، ووفقني الى العمل الصالحِ الذي ترضاه، وارزقني ذريةً صالحة تسير على درب الهدى والايمان، إني تُبت اليك من كلّ ذنب ‏{‏وَإِنِّي مِنَ المسلمين‏}‏ المستسلمين لأمرِك ونَهيك‏.‏

هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات الحميدة نتقبّل منهم أعمالَهم الحسنة، ونجازيهم عليها أحسنَ الجزاء‏.‏ وهم منتظِمون في سلك أصحاب الجنة ‏{‏وَعْدَ الصدق الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ‏}‏ والله تعالى لا يُخْلف وعده‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ أهل الكوفة‏:‏ احسانا وقرأ الباقون‏:‏ حينا‏.‏ وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي وابو عمرو‏:‏ كَرها بفتح الكاف‏.‏ والباقون‏:‏ كُرها بضمها وهما لغتان‏.‏ وقرأ يعقوب‏:‏ وفصله، والباقون‏:‏ وفصاله‏.‏ وهما لغتان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 20‏]‏

‏{‏وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏17‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ‏(‏18‏)‏ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏19‏)‏ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

أف‏:‏ كلمة معناها التضجّر، وهي مستعملة كثيرا‏.‏ أن أُخرج‏:‏ ان ابعث من القبر‏.‏ خلت القرونُ من قبلي‏:‏ مضت الأممُ من قبلي ولم يبعث أحدٌ من قبره‏.‏ ويلك‏:‏ دعاء عليه بالهلاك‏.‏ الهلاك لك‏.‏ اساطير الاولين‏:‏ أباطيلهم وخرافاتهم‏.‏ حقَّ عليهم القول‏:‏ حق عليهم العذاب‏:‏ الخاسرين‏:‏ الّذين ضيّعوا انفسهم باتّباع شهوانهم وعدم الايمان بالله ورسوله‏.‏ الدرجات‏:‏ المنازل‏.‏ أذهبْتم طيباتكم‏:‏ أذهبتم حياتكم وشبابكم وقوّتكم باتّباع شهواتكم في الدنيا‏.‏ الهُون‏:‏ الهوان والذل‏.‏

بعد ان مضى الحديث عن حال البررة من الأولاد، بيّن هنا حالَ الاشقياء العاقّين للوالدَين، الجاحدين المنكرين للبعث والحساب‏.‏

والفريق الثاني من الناس هو الذي ينهر والديه ويقول لهما أفّ لكما ولما تؤمنان به، اتقولان لي إني سأُبعث من قبري حيّا بعد موتي، وقد مات قبلي كثيرٌ من الناس لم يعُدْ منهم أحد، أنا لا اصدّق هذا ولا أومن به‏!‏

ووالداهُ يستصرخان اللهَ مستغيثين أن يوفق ولدهما إلى الايمان، ويقولان له‏:‏ ويلكَ، آمِنْ قبل ان تهلك وتموتَ ثم تحشَر الى النار، ‏{‏إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ‏}‏ فيردّ عليهم بأنّ كل ما يقولانه خرافاتٌ من أساطير الاقدمين‏.‏

هذا الصنف من البشَر هم الذين حقَّ عليهم وقوعُ العذاب مع أممٍ قد مضت من قبلِهم من الجنّ والانس، ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ‏}‏‏.‏

روى البخاري والترمذي وابو داود ان النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن من أكبرِ الكبائر ان يلعنَ الرجلُ والديه او يعقَّهما»‏.‏

ولكل من المؤمنين والكافرين منازلُ تلائمهم بحسب أعمالهم، ليظهرَ عدلُ الله فيهم، وليوفيهم جزاءَ أعمالهم ‏{‏وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏‏.‏

واذكر أيّها الرسول يومَ يُعرض الكافرون على النار يقال لهم‏:‏ لقد استوفيتم ملذّاتِكم وشهواتِكم في الدنيا، واستمتعتُم بها، فاليومَ لكم أشدُّ العذاب بالذلّ والهوان بما كنتم في الدنيا تفسُقون وتستكبرون‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي وحفص‏:‏ نتقبل، ونتجاوز بالنون‏.‏ والباقون‏:‏ يتقبل ويتجاوز بالياء‏.‏ وقرأ هشام‏:‏ اعتدانّي بنن واحدة مشددة‏.‏ والباقون‏:‏ اتعدانني بنونين بدون تشديد‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وابن ذكوان‏:‏ لنوفيهم بالنون‏.‏ والباقون‏:‏ ليوفيهم بالياء‏.‏ وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب‏:‏ أأذهبتم طيباتكم بالاستفهام، والباقون‏:‏ بهمزة واحدة، وابن كثير يقرأ بهمزة ممدودة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 28‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏21‏)‏ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏22‏)‏ قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ‏(‏23‏)‏ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏24‏)‏ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏25‏)‏ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏26‏)‏ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏27‏)‏ فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

أخا عاد‏:‏ هو هود عليه السلام‏.‏ الأحقاف‏:‏ جمع حِقف بكسر الحاء، رمال معوجة مستطيلة، وهي بلاد بين عُمان وحضرموت كما تقدم في الكلام على مقدمة السورة‏.‏ النذُر‏:‏ جمع نذير، وهو المنذر‏.‏ من بين يديه‏:‏ من قبله‏.‏ ومن خلفه‏:‏ من بعده‏.‏ لتأفكنا‏:‏ لتصرفنا‏.‏ بما تعدنا‏:‏ من تعجيل العذاب‏.‏ العارض‏:‏ السحاب الذي يعرض في افق السماء‏.‏ مستقبل أوديتهم‏:‏ متجها اليها‏.‏ وحاق بهم‏:‏ نزل بهم‏.‏ صرّفنا الآيات‏:‏ بيناها‏.‏ قرباناً‏:‏ متقربا بها الى الله‏.‏ ضلّوا عنهم‏:‏ غابوا عنهم‏.‏ وذلك إفكُهم‏:‏ وذلك الذي حل بهم عاقبة كذبهم وافترائهم‏.‏

اذكر ايها الرسول لقومك المكذِّبين هوداً، أخا قوم عادٍ، الذي حذّر قومه الذين كانوا يسكنون الأحقاف‏.‏ وقد مضت الرسُل قبله وبعدَه بمثل ما أنذَر به قومه، اذ قال لهم‏:‏ لا تعبدوا الا الله وحده، ‏{‏إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏‏.‏ فما كان جوابُ قومه الا أن قالوا‏:‏ أجئتنَا لتَصرِفَنا عن عبادة آلهتنا، فأتِنا بما تعِدُنا من العذابِ ان كنتَ من الصادقين‏.‏

فقال هود‏:‏ إنما العِلم بوقتِ عذابكم عندَ الله وحده، وأنا ابلِّغكم رسالة ربي اليكم، ‏{‏ولكني أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ‏}‏ ما تُبعث به الرسُل وما في مصلحتكم‏.‏

فأتاهم العذابُ في صورة سحاب‏.‏ فلَمّا رأَوه ممتدّا في الأفُق مقبلاً على أوديتهم ظنّوه غيثاً فقالوا فرِحين‏:‏ هذا سحابٌ جاءنا بالمطر والخير‏.‏ فقيل لهم‏:‏ بل هو العذابُ الذي طلبتموه واستعجلتم به‏.‏ إنها ريحٌ فيها عذابٌ شديدُ الألم، تُهلك كلَّ شيء بأمر ربِّها‏.‏ ولقد دمرتْهم واستأصلت جميع الأحياء في تلك البلاد‏.‏

‏{‏فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ‏}‏

أصبحوا أثراً بعد عَيْن‏.‏ بمثل هذا نجزي كلَّ من أجرمَ واستكبر ولم يؤمن بالله ورسله‏.‏

ولقد مكنّا عاداً وقومه بالقوة والسَّعة ما لم نمكّن لكم يا أهل مكة، وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة لم ينتفِعوا بها لأنهم كانوا مصرّين على إنكار بآيات الله وجحدها‏.‏

‏{‏وَحَاقَ بِه مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ‏}‏

وأحاط بهم العذابُ الذي كانوا يستهزئون به‏.‏

ولقد أهلكنا القرى التي كانت حولكم يا أهلَ مكة، وبينّا لهم الآياتِ المتنوعةَ والحجج لعلّهم يرجعون عن الكفر‏.‏ فلم يَرعَووا ولم يرجِعوا‏.‏ فخُذوا عبرةً من كل ما تلوناه عليكم وارجِعوا عن كفركم وعبادةِ الأوثان لعلّكم تُفلحون‏.‏

والمقصود بالقرى التي حولَهم هي أقوام هود وصالح ولوط وشعيب لأنهم كانوا حول ديارهم‏.‏

‏{‏فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله قُرْبَاناً آلِهَةَ بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ‏}‏‏.‏

هنا يقول الله تعالى‏:‏ لم تَنصرهم آلهتُهم وأوثانهم الذين عبدوهم من دون الله، واتّخذوا عبادتَهم قرباناً يتقرّبون به إلى ربهم فيما زعموا، بل غابوا عنهم وتركوهم في أحرجِ الأوقات‏.‏

‏{‏وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏

وذلك الذي حلّ بهم من خِذلان آلهتهم لهم وضلالِهم عنهم هو عاقبةُ كذِبهم‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ عاصم وحمزة وخلف‏:‏ لا يُرى الا مساكنهم بضم الياء من يرى، ورفع النون‏.‏ والباقون‏:‏ لا تَرى الا مساكنهم بفتح التاء ونصب النون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 32‏]‏

‏{‏وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ‏(‏29‏)‏ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏30‏)‏ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏31‏)‏ وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏32‏)‏‏}‏

صرَفَنا اليك‏:‏ وجّهنا اليك‏.‏ النفر‏:‏ ما بين الثلاثة والعشرة‏.‏ قُضِيَ‏:‏ فرغ من تلاوته‏.‏ ولّوا‏:‏ رجعوا‏.‏ من يجِرْكم‏:‏ من ينقذكم‏.‏ داعي الله‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

بعد ان ذكر اللهُ ان في الانسِ من آمنَ ومنهم من كفر، بيّن هنا ان الجنّ كذلك، وأنهم عالَمٌ مستقلّ بذاته‏.‏ ويجب ان نعلم ان عالَم الملائكة وعالَم الجن يختلفان عنا تمامَ الاختلاف ولا نعلم عنهما شيئا الا من الاخبار التي جاءت بها الرسُل الكرام‏.‏ ونحن نؤمن بوجودهما، وان النبيّ عليه الصلاة والسلام بلّغ الجنَّ رسالته كما ورد هنا وفي عدد من السور‏.‏

أخرج مسلم وأحمد والترمذي عن علقمة قال‏:‏ قلت لعبدِ الله بن مسعود، هل صحبَ رسولَ الله منكم احد ليلة الجنّ‏؟‏ قال ما صحبه منا أحد، ولكنّا افتقدناه ذات ليلة، فبتنا بشرِّ ليلة باتَ بها قوم‏.‏ فلمّا كان وجه الصبح إذا نحن به يجيء من قِبَل حِراء، فقال‏:‏ اتاني داعي الجن فأتيتُهم فقرأتُ عليهم القرآن‏.‏ فانطلق فأرانا آثارهم‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

وخلاصة معنى هذه الآيات‏:‏

لقد وجّهنا إليك أيها الرسول مجموعةُ من الجن ليستمعوا القرآن، فلما سمعوه قالوا‏:‏ أنصِتوا‏.‏ فلما فرغ من قراءته رجعوا الى قومهم فأنذروهم، وقالوا لهم‏:‏ يا قومنا، لقد سمعنا آياتٍ من كتاب انزله الله من بعد موسى مصدِّقاً لما تقدَّمه من الكتب الالهية، يهي الى الحق، والى شريعة قويمة، وحياة كريمة، فآمِنوا به يغفرْ لكم من ذنوبكم‏.‏ يا قومنا أَجيبوا داعي الله الذي يهدي الى الحق، ومن لم يجب الداعي فإن الله سيهلكه، ولن يستطيع أحد أن يحميَه، ان الذين لا يطيعون الله ورسوله في ضلال مبين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 35‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏33‏)‏ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏34‏)‏ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

لم يعيَ‏:‏ لم يعجز‏.‏ اولو العزم‏:‏ اصحاب الجد والصبر والثبات‏.‏ بلاغ‏:‏ كفاية في الموعظة‏.‏

يبين الله تعالى هنا ان الذي خلق هذا الكونَ العجيب بمفرده ولم يُعدِزه خلْقُه وما فيه، يقدر على إعادة الموتى وإحيائهم من جديد، ‏{‏بلى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

ويوم يوقَف الذين كفروا ويُعرضون على النار، يقول الله لهم‏:‏ أليست النارُ حقيقةً واقعة‏؟‏‏.‏

فيقولون‏:‏ بلى واللهِ انها الحق‏.‏ فيقال لهم‏:‏ ذوقوا عذابَ النار الذي كنتم به تكذِّبون‏.‏

فاصبر ايها الرسول على ما أصابك من اذى وتكذيب، كما صبر أولو العزم من الرسُل قبلك، ولا تستعجل لهم العذابَ فهو واقعٌ بهم لا محالة، كأنّهم يومَ يشاهدون هولَه يظنّون أنّهم ما أقاموا في هذه الدنيا الا ساعةً من نهار‏.‏ إن هذا القرآن بلاغٌ لهم، فيه الكفاية لمن طلب الرشد والهداية‏.‏

ثم بعد ذلك أوعد وأنذر فقال‏:‏ ‏{‏فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون‏}‏‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ يعقوب‏:‏ يقدر‏.‏ والباقون‏:‏ بقادر‏.‏

وهكذا تنتهي هذه السورة الكريمة بالوعيد للفاسقين، وما الله يريد ظلماً للعباد‏.‏

سورة محمد

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏1‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ‏(‏2‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ‏(‏3‏)‏ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏4‏)‏ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ‏(‏5‏)‏ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ‏(‏6‏)‏‏}‏

صدوا عن سبيل الله‏:‏ صرفوا الناس عن الاسلام‏.‏ أضلّ اعمالهم‏:‏ أبطلها‏.‏ اصلح بالَهم‏:‏ أصلح حالهم، والبال معناه القلب والخاطر‏.‏ والبال‏:‏ الامل، ويقال‏:‏ فلان رضيّ البال وتاعم البال‏:‏ موفور العيش هادئ النفس‏.‏ فضرب الرقاب‏:‏ فاضربوا رقابهم ضرباً واقتلوهم‏.‏ أثخنتموهم‏:‏ اكثرتم فيهم القتل‏.‏ فشدّوا الوثاق‏:‏ فأسِروهم واربطوهم‏.‏ الوثاق بفتح الواو وكسرها ما يوثق به‏.‏ فإما منّاً بعدُ واما فداء‏:‏ فاما ان تطلقوا سراحهم بدون فداء، واما ان يفدوا أنفسهم بشيء من المال‏.‏ حتى تضع الحرب أوزارها‏:‏ حتى تنتهي الحرب، الأوزار‏:‏ اثقال الحرب من سلاح وغيره‏.‏

قسم الله الناس فريقين‏:‏ أهلَ الكفر الذين صدّوا الناسَ عن دين الله، وبيّن ان هؤلاء قد أبطلَ اعمالهم، وأهل الايمان الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات، وقد محا عنهم سيئاتهم، وأصلح حالهم في الدين والدنيا‏.‏

ثم علل ذلك بان اعمال الفريقين جرت على ما سنَّه الله في الخليقة، بأن الحق منصور، والباطل مخذول، ‏{‏كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ‏}‏، وهكذا شأن القرآن يوضح الأمور التي فيها عظة وذكرى بضرب الامثال للناس ليعتبروا‏.‏

ثم بعد ذلك ذكر الله تعالى هنا وجوبَ القتال وأذِن به بعد ان استقر المؤمنون في المدينة، وبدأوا في تأسيس الدولة الاسلامية‏.‏ وتبين هذه الآياتُ مشروعيةَ القتال للدفاع عن العقيدة والوطن‏.‏ فإذا لقيتم الذين كفروا في الحرب فاضرِبوا رقابَهم، حتى إذا أضعفتموهم بكثرة القتل فيهم فأحكِموا قيد الأسرى، وبعد ذلك لكم الخيار‏:‏ إما ان تُطلقوا الأسرى او بعضَهم بغير فداء وتمنُّوا عليهم بذلك، وإما ان تأخذوا منهم الفدية، او تبادلوا بهم بالمسلمين ممن يقع في الأسر‏.‏ وليكن هذا شأنكم مع الكافرين حتى تنتهي الحرب وتضع أوزارها‏.‏

ثم بين الله تعالى ان هذه هي السنّة التي أرادها من حرب المشركين، ولو شاء لانتقم منهم بلا حرب ولا قتال، ولكنه ليختبر المؤمنين بالكافرين شرع الجهاد‏.‏

واما الشهداء الذين يُقتلون في سبيل الله فلن يُبطل أعمالهم، بل ‏{‏سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ‏}‏ وفيها كل ما لذ وطاب، وهم يعرفون منازلهم فيها كما يعرفون منازلهم في الدنيا‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ أهل البصرة وحفص‏:‏ والذين قُتلوا‏.‏ بضم القاف وكسر التاء‏.‏ والباقون والذين قاتلوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 14‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ‏(‏7‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏8‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏9‏)‏ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ‏(‏10‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ‏(‏11‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ‏(‏12‏)‏ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ ‏(‏13‏)‏ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ‏(‏14‏)‏‏}‏

ان تنصروا الله تنصروا دينه‏.‏ يثبِّت أقدامكم‏:‏ ينصركم ويوفقكم‏.‏ تعساً لهم‏:‏ هلاكاً لهم‏.‏ أحبطَ اعمالهم‏:‏ أبطلها‏.‏ دمر عليهم‏:‏ أهلكهم، يقال دمر القوم ودمر عليهم‏:‏ أهلكهم‏.‏ وللكافرين امثالُها‏:‏ للكافرين امثالُ عاقبة الذين دمرهم الله‏.‏ نولى الذين آمنوا‏:‏ ناصرهم‏.‏ وأن الكافرين لا مولى لهم‏:‏ لا ناصر لهم‏.‏ والنار مثوى لهم‏:‏ مقرٌّ لهم‏.‏ من قريتك‏:‏ من مكة‏.‏

يا ايها الذين آمنوا إن تنصروا الله ‏(‏وذلك بنصرِ شريعته، والقيام بحقوق الاسلام، والسيرِ على منهاجه القويم‏)‏ ينصركم الله على عدوّكم‏.‏ وهذا وعدٌ صادق من الله تعالى، وقد انجزه للمؤمنين الصادقين من اسلافنا‏.‏ فنحن مطالَبون الآن بنصر دين الله والسير على منهاجه حتى ينصرنا الله ويثبّت أقدامنا، واللهُ لا يخلف الميعاد‏.‏

اما الذين كفروا بالله فتعساً لهم وهلاكا، واللهُ تعالى قد أبطلَ اعمالهم، وجعلها على غير هدى لأنها عُملت للشيطان‏.‏ فلقد كرهوا ما انزل الله من القرآن وكذّبوا به وقالوا عنه انه سحر مبين، ‏{‏فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ‏}‏، وهكذا بات عملهم كلّه هباءً وذهبوا الى النار‏.‏

بعد ذلك يوجه الله الناسَ الى النظر في احوال الأمم السابقة ورؤية آثارهم، لأن المشاهَدة للأمور المحسوسة تؤثر في النفوس، فيقول لهم‏:‏ افلم تسيروا في الأرض فتنظروا ديار الأمم السابقة التي كذّبت الرسل‏!‏ اتّعظوا بذلك، واحذروا ان نفعل بكم كما فعلنا بمن قبلكم، ممن اوقعنا بهم الهلاك ودمرنا ديارهم‏.‏ ‏{‏وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا‏}‏ ان كل من يكفر بالله ينتظره مثل ذلك العذاب‏.‏ والله وليُّ من آمن به واطاع رسوله، وليس للكافرين من ناصر على الاطلاق‏.‏

وبعد ان بيّن حال المؤمنين والكافرين في الدنيا بيّن هنا نصيب المؤمنين، ونصيب الكافرين في الآخرة، وشتان بين الحالين وبين النصيبين‏.‏ فالمؤمنون يدخلون جناتٍ عظيمة تجري من تحتها الأنهار إكراماً لهم على إيمانهم بالله ونصرهم لدينه وشريعته‏.‏ والكافرون يتمتعون في الدنيا قليلا، ويأكلون كما تأكل الحيوانات، غافلين عما ينتظرهم من عذاب أليم، ‏{‏والنار مَثْوًى لَّهُمْ‏}‏ فهي مأواهم الذي يستقرون فيه‏.‏

‏{‏وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ التي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

وهنا يسلّي الله تعالى رسوله الكريم فيخبره ان كثيراً من أهل القرى السابقين كانوا اشدَّ بأساً وقوة من مكة التي أخرجك اهلُها، ومع ذلك فقد أهلكهم الله بأنواع العذاب فلم ينصُرهم احد، ولم يمنعهم احد‏.‏

ثم يبين الله الفرق بين المؤمنين المصدّقين، والكافرين الجاحدين، والسببَ في كون المؤمنين في اعلى الجنان، والكافرين في اسفل الجحيم‏:‏

‏{‏أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ واتبعوا أَهْوَاءَهُمْ‏}‏

هل يستوي الفريقان في الجزاء‏؟‏ لا يمكن، فالذين آمنوا ‏{‏على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ‏}‏ رأوا الحق وعرفوه واتبعوه‏.‏ والذين كفروا زين لهم الشيطان سوء اعمالهم فرأوه حسنا فضلّوا ‏{‏واتبعوا أَهْوَاءَهُمْ‏}‏ فهل يستوي الفريقان‏؟‏ لا يستويان ابدا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 19‏]‏

‏{‏مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ‏(‏15‏)‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ‏(‏16‏)‏ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ‏(‏17‏)‏ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ‏(‏18‏)‏ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ‏(‏19‏)‏‏}‏

مثل الجنة‏:‏ صفتها‏.‏ آسِن‏:‏ متغير الطعم والريح، والفعل‏:‏ أسَن يأسِن مثل ضرب يضرب وأسَن يأسُن مثل نصر ينصر، وأسِن يأسَن مثل علم يعلم‏.‏ لذة للشاربين‏:‏ لذيذ للشاربين‏.‏ مصفى‏:‏ قد اخذ منه الشّمع‏.‏ حميماً‏:‏ شديد الحرارة‏.‏ آنفا‏:‏ قريبا‏.‏ وآتاهم تقواهم‏:‏ الهمهم تقواهم، وفقهم اليها‏.‏ أشراطها‏:‏ علاماتها‏.‏ فأنّى لهم‏:‏ فكيف لهم‏.‏ ذكراهم‏:‏ تذكرهم‏.‏ متقلَّبكم‏:‏ تصرفكم في اعمالكم‏.‏ مثواكم‏.‏ مأواكم ومصيركم في الآخرة‏.‏

صفة الجنة التي وعد الله بها عباده المؤمنين انها‏:‏ فيها انهار من ماء عذب لم يتغير طعمه، فالماء الراكد المتغيّر ضارٌّ لما فيه من الجراثيم، وأنهارٌ من لبن لم يفسد طعمه، وانهار من خمر لذيذة للشاربين، وانهار من عسلٍ صافٍ من كل كَدَر‏.‏ وفيها من جميع انواع الثمرات‏.‏ وفوق كل هذه النعم يأتي رضى الله عنهم ‏{‏وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ‏}‏‏.‏

فهل صفةُ هذه الجنة وما فيها من خيرات ونعم مثل صفة الذين خُلِّدوا في النار، ‏{‏وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ‏}‏‏؟‏‏!‏

وبعد بيان حال المشركين وسوء مصيرهم، وصفَ حال المنافقين الذين كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنهم ساعة يخرجون من عنده يقولون للواعين من الصحابة‏:‏ ماذا قال محمد ونحن في مجلسه‏؟‏ فإننا لم نفهم منه شيئا‏.‏ وهذا كله سخرية واستهزاء‏.‏

‏{‏أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ‏}‏

فهم مشغولون بالخبث وحطام الدنيا‏.‏ اما الذين اهتدوا الى طريق الحق فقد زادهم الله هدى، وألهمهم تقواهم وصلاحَهم‏.‏ ثم عنّف الله اولئك المكذّبين، وأكد انهم لم يتّعظوا بأحوال السابقين، وعليهم ان يتوبوا قبل ان تأتيهم الساعة بغتة وقد بدت علاماتها بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ففي البخاري ومسلم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بُعثت انا والساعة كهاتين»، واشار بإصبعيه السبّابة والتي تليها‏.‏ ولا ينفعهم شيء اذا جاءتهم الساعة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان وأنى لَهُ الذكرى‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 23‏]‏‏.‏

وبعد أن بيّن أن الذِكرى لا تنفع يوم القيامة أمرَ رسولَه الكريم بالثبات على ما هو عليه من وحدانية الله واصلاح نفسه بالاستغفار من ذنبه، والدعاء للمؤمنين والمؤمنات‏.‏

‏{‏والله يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ‏}‏

هو العليم بتصرفكم في الدنيا، ومصيركم في الآخرة‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن كثير‏:‏ أسِن بفتح الهمزة بغي رمد وكسر السين‏.‏ والباقون‏:‏ آسن‏:‏ بمد الهمزة‏.‏ وقرأ ابن كثير‏:‏ أنفا بهمزة بغير مد على وزن حذر‏.‏ والباقون‏:‏ آنفا بمد الهمزة على وزن فاعل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 23‏]‏

‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ ‏(‏20‏)‏ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ‏(‏21‏)‏ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ‏(‏22‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ‏(‏23‏)‏‏}‏

لولا نُزّلت سورة‏:‏ هلاّ أنزلت سورة‏.‏ محكمة‏:‏ بينة، واضحة‏.‏ في قلوبهم مرض‏:‏ شك ونفاق‏.‏ نظ رالمغشيّ عليه من الموت‏:‏ كالجبان الذي يخاف من كل شيء‏.‏ أولَى لهم‏:‏ ويل لهم‏.‏ عزم الأمرُ‏:‏ جد ولزم‏.‏ إن توليتم‏:‏ صرتم حكاما وتوليتم امور الناء‏.‏

ان المؤمنين المخلصين يقولون‏:‏ هلاّ أنزِلتْ سورةٌ تدعونا الى القتال، فإذا انزلت سورةٌ مُحكَمة تأمر به، رايتَ يا محمد الذين في قلوبهم نفاق ينظرون إليكَ بهلَع وخوفٍ كأن الموت يغشاهم، خوفا من القتال وكرها له‏.‏

‏{‏فأولى لَهُمْ‏}‏

فالموتُ أَولى لمثل هؤلاء المنافقين، أهلكهم الله‏.‏

‏{‏طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ‏}‏ ان طاعةً لله وكلمة طيبة لهي أمثل لهم وأحسن مما هم فيه من الهلع والجبن من لقاء العدو، فاذا جدَّ الأمرُ ولزمهم القتال- كرهوه وتخلفوا عنه خوفا وجبنا، ولو صدَقوا في ايمانهم لكان خيرا ًلهم من نفاقهم هذا‏.‏

ثم زاد في تأنيبهم وتوبيخهم بقوله‏:‏

‏{‏فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض وتقطعوا أَرْحَامَكُمْ أولئك الذين لَعَنَهُمُ الله فَأَصَمَّهُمْ وأعمى أَبْصَارَهُمْ‏}‏

أولئك المنافقون الذين طردهم الله من رحمته، فأصمَّهم عن سماع الحق، وأعمَى أبصارَهم عن رؤية طريق الهدى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 31‏]‏

‏{‏أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ‏(‏24‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ‏(‏25‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ‏(‏26‏)‏ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ‏(‏27‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏28‏)‏ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ‏(‏29‏)‏ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ‏(‏30‏)‏ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ‏(‏31‏)‏‏}‏

يتدبرون القرآن‏:‏ يتفهمون معانيه ويتفكرون فيه‏.‏ ارتدّوا على أدبارهم‏:‏ رجعوا الى الكفر‏.‏ سوّل لهم‏:‏ زين لهم‏.‏ وأملَى لهم‏:‏ مدّ لهم الأماني والآمال‏.‏ أضغانهم‏:‏ جمع ضِغن وهو الحقد الشديد‏.‏ بسِيماهم‏:‏ بعلامتهم‏.‏ ولتعرفنّهم في لحن القول‏:‏ في اسلوبه الذي يتكلمون به ومغزاه‏.‏ ولنبلونَّكم‏:‏ لنختبرنكم‏.‏

افلا يتفهّمون معاني القرآن ويتفكرون فيه، ام ان قلوبهم مغلقةٌ كأن عليها الاقفال‏!‏ ان الذين رجعوا الى الكفر بعد أن ظهر لهم طريق الحق والهداية، انما زين لهم الشيطانُ الكفر واغراهم بالنفاق، ومد لهم في الآمال الباطلة‏.‏ ولقد جاءهم ذلك الضلال من جيرانهم اليهود من بني قريظة والنضير الذين كرهوا الاسلام والقرآن ورسالة الرسول الكريم‏.‏ فهؤلاء المنافقون مالأوا اليهود فأطمعهم أولئك ببعض الامر، والله يعلم اسرار المنافقين‏.‏

هذه الحيل وذلك النفاق وان نفعت في حياتهم فلن تنفع آخر الأمر‏.‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ‏}‏ انها خاتمة سيئة، ومشهد مخيف مفزع‏.‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتبعوا مَآ أَسْخَطَ الله وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ‏}‏

ان هذا الهول الذي سوف يرونه عند الوفاة انما سببُه أنهم اتّبعوا الباطل الذي لا يرضى الله عنه، وكرهوا الحق الذي يرضاه، فأبطل أعمالَهم جميعها‏.‏

ثم بين الله انه يعلم خباياهم ومكرهم وخبثهم فقال‏:‏

‏{‏أَمْ حَسِبَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ الله أَضْغَانَهُمْ‏}‏

فهل يظن هؤلاء المنافقون ان الله لن يُظه~رَ أحقادهم ويفضحهم للرسول والمؤمنين‏!‏ ولو نشاء لعرّفناك يا محمد أشخاصَهم، فعرفَته بعلاماتٍ خاصة بهم‏.‏

‏{‏وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول‏}‏

وأُقسِم أيّها الرسول لتعرفنّهم في اسلوبِ كلامهم المعوج، ‏{‏والله يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ‏}‏‏.‏

وقد ثبت في الحديث الصحيح ان الرسول الكريم كان يعرفهم جميعا، وقد عرّفهم الى حذيفة بن اليمان الصحابي الجليل رضي الله عنه‏.‏

ولنختبرنّكم أيها المؤمنون بالجهاد وتكاليف الشريعة، حتى نعلمَ المجاهدين منكم والصابرين في البأساء والضراء، ونعرفَ الصادقَ منكم في إيمانه من الكاذب‏.‏

قال ابراهيم بن الاشعث‏:‏ كان الفضيل بن عياض، شيخ الحرم واستاذ زمانه، اذا قرأ هذه الآية بكى وقال‏:‏ اللهمّ لا تبتلينا، فإنك اذا بَلَوْتنا فضحْتَنا وهتكتَ أستارنا‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابو عمرو‏:‏ وأُمليَ لهم، بالبناء للمجهول‏.‏ وقرأ يعقوب‏:‏ واملي لهم، بضم الهمزة وكسر اللام على الإخبار‏.‏ والباقون‏:‏ وأَملَى لهم بفتح الهمزة واللام على انه فعل ماضٍ‏.‏

قرأ حمزة والكسائي وحفص‏:‏ إسرارهم بكسر الهمزة‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ أسرارهم بفتح الهمزة جمع سر‏.‏ وقرأ ابو بكر‏:‏ وليبلونكم حتى يعلم المجاهدين‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ويبلوا اخباركم‏.‏ هذه الافعال الثلاثة بالياء‏.‏ والباقون‏:‏ بالنون كما هو في المصحف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 38‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏32‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ‏(‏33‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ‏(‏34‏)‏ فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ‏(‏35‏)‏ إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ‏(‏36‏)‏ إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ‏(‏37‏)‏ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ‏(‏38‏)‏‏}‏

شاقّوا الرسول‏:‏ عادوه وخالفوه‏.‏ فلا تهِنوا‏:‏ فلا تضعُفوا عن القتال‏.‏ وتدعوا الى السلم‏:‏ تدعوا الكفار الى الصلح خوفا منهم‏.‏ الأعلَون‏:‏ الغالبون‏.‏ لن يتركم اعمالكم‏:‏ لن يُنقص اعمالكم يعني ان الله لا يظلمكم‏.‏ فيُحْفِكم‏:‏ فيلحّ عليكم ويجهدكم بطلبها، يقال احفاه بالمسألة‏:‏ اذا لم يترك شيئا من الالحاح‏.‏ أضغانكم‏:‏ أحقادكم‏.‏

بعد ان بيّن الله تعالى حال المنافقين ذكَر هنا حال أساتذتهم اليهود الذين كفروا بالله وصدّوا الناس عن الاسلام بهبثهم ومكرهم، وعادَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقد تبين لهم صدقُه وأنه رسولُ من عند الله، وعندهم وصفُه في التوراة‏.‏‏.‏ فهؤلاء لن يضروا الله شيئا، وإنما يضرّون أنفسَهم، وسيحبط الله مكايدَهم التي نصبوها للاسلام والمسلمين‏.‏

ثم أمر الله عباده المؤمنين بطاعته وطاعةِ رسوله الكريم في كل ما يأمران به، وان لا يبطلوا أعمالَهم برفض طاعتهما فيرتدّوا، ولا يقبل الله مع الشرك اي عمل‏.‏

وعن قتادة قال في الآية‏:‏ من استطاع منكم ان لا يُبطل عملاً صالحاً بعمل سوءٍ فليفعل‏.‏ ثم بين الله مصير الذين كفروا وصدّوا الناسَ عن الدخول في الاسلام، ثم ماتوا وهم كفار، فلن يغفر الله لهم‏.‏ وحرّض المسلمين بأن يقاتلوا الكفار بقوله‏:‏

‏{‏فَلاَ تَهِنُواْ وتدعوا إِلَى السلم وَأَنتُمُ الأعلون‏}‏

إياكم ان تضعفوا وتدعوا اعدائكم الى السلم فأنتم المنتصرون‏.‏ والله معكم بنصره، ولن ينقصكم ثواب اعمالكم‏.‏

ثم أكد على المؤمنين بأنه لا ينبغي الحِرصُ على الدنيا فإنها ظلٌّ زائل، وما هذه الحياة الا لعب ولهو‏.‏

‏{‏وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ‏}‏ الا القليل النزر الذي فيه اصلاح المجتمع للمعونة على القيام بالمرافق العامة‏.‏ وهو عليم بأنكم أشحّة على أموالكم، فلو طلبها لبخلتم بها وظهرتْ أحقادكم على طالبيها‏.‏ واللهُ قد طلب إليكم الانفاق في سبيله، فان بخلتم فضرر ذلك عائد اليكم‏.‏ وهذا حاصل اليوم، فان معظم أموال البترول مكدّصة في بلاد الغرب، والمسيطرون على هذه الاموال ينفقون على ملذّاتهم الملايين، ويبخلون بالإنفاق في سبيل الله وتسليح المخلصين من العرب ليصدّوا عدونا اليهود وغيرهم من الاعداء‏.‏

‏{‏هَا أَنتُمْ هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ والله الغني وَأَنتُمُ الفقرآء‏}‏

كأن الآيةَ نزلت في وقتنا الحاضر، وهي صريحةٌُ في شرح احوالنا‏.‏

وهنا يأتي التهديد المخيف اذ يقول تعالى‏:‏

‏{‏وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم‏}‏

فان تعرِضوا وبتخَلوا باموالكم ولا تنفقوا في سبيل الله، فان الله غنيٌّ عنكم يستبدلُ مكانكم قوماً غيركم، فيكونوا خيراً منكم، يقيمون دينه، ويبذلون أموالَهم في سبيلِ الله بسَخاء، وينصرون هذا الدينَ العظيم‏.‏ اللهم ألهمنا الصوابَ في القول والعمل‏.‏

سورة الفتح

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ‏(‏1‏)‏ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ‏(‏2‏)‏ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ‏(‏3‏)‏ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏4‏)‏ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

فتحنا لك فتحا مبينا‏:‏ نصرناك نصرا بينا ظاهرا‏.‏ وكان صلح الحديبية نصراً كبيرا للنبي الكريم، إذ كان سببا في فتح مكة‏.‏ قال الامام الزهري‏:‏ لم يكن فتحٌ اعظم من صلح الحديبية، اختلط المشركون بالمسلمين وسمعوا كلامهم فتمكن الاسلام من قلوبهم وأسلم في ثلاث سنين خلقٌ كثير كَثُر بهم سواد الاسلام، فما مضت تلك السنن الا والمسلمون قد جاؤا الى مكة في عشرة آلاف ففتحوها‏.‏ السَّكينة‏:‏ الطمأنينة والثبات‏.‏

إنا فتحنا لك يا محمد فتحاً ظاهرا عظيما بذلك الصلح الذي تم على يديك في الحديبية، وكان نتيجته الكبرى استيلاءك على مكة وازالة الكفر منها‏.‏

ليغفر اله لك، بسبب جهادك وصبرك، ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ويُتم نعمته عليك بإعلاء شأن دينك، وانتشاره في البلاد، ورفع ذكرك في الدنيا والآخرة، ويهديك صراطا مستقيما في تبليغ الرسالة واقامة الدين، وينصرك على أعدائك نصراً فيه عز ومنعة‏.‏

ان الله هو الذي انزل الطمأنينة في قلوب المؤمنين في المواقف الحرجة ووسْط المخاوفِ والشدائد ليزدادوا بها يقيناً، ولله جنودُ السموات والأرض يدبّر أمرها كما يشاء، ويسلّطها على من يشاء لتأديبه، وكان علم الله محيطاً بكل شيء‏.‏

ليدخلَ الله المؤمنين والمؤمنات بالله ورسوله جناتٍ تجري من تحتها الانهار، ما كثين فيها أبدا، ويمحوَ عنهم سيئاتهم، وكان ذلك الجزاء عند الله فوزا عظيما‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 9‏]‏

‏{‏وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏6‏)‏ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏7‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏8‏)‏ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏9‏)‏‏}‏

عليهم دائرة السوء‏:‏ تدور عليهم وتحيط بهم‏.‏ السوء‏:‏ الشر‏.‏ تعزّروه‏:‏ تنصروه‏.‏ توقروه‏:‏ تعظّموه‏.‏ بكرة‏:‏ صباحا اول النهار‏.‏ اصيلا‏:‏ مساء آخر النهار‏.‏

وليعذّب المنافقين والمنافقاتِ والمشركين بالله والمشركاتِ الذين يظنون بالله اسوأ الظنون، كأنْ لا ينصر رسولَه‏.‏ وقد نصره‏.‏ فعليهم تدور دوائر الشر لا يفلتون منها، ونالهم عضبٌ من الله، الّذي طردهم من رحمته، ‏{‏وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 6‏]‏ وما أسوأها من مصير‏!‏

‏{‏وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض‏}‏ من الملائكة والإنس والجن، والصيحة والرجعة والزلازل والخسف وغير ذلك‏.‏‏.‏ يُهلِك بها اعداءه ‏{‏وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً‏}‏ ولا يزال‏.‏

انا ارسلناك يا محمد شاهداً على أمتك وعلى من قبلَها من الأمم، ومبشراً الذين آمنوا بحسْن الثواب، ونذيراً للذين عصَوا بسوء العذاب‏.‏ وذلك لتؤمنوا ايها الناس، وتنصروا الله بنصر دينه، وتعظموه مع الاجلال والاكبار، ‏{‏وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً‏}‏ صباحا ومساء‏.‏

وقرأ ابن كثير وابو عمرو‏:‏ دائرة السوء بضم السين‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بفتح السين‏.‏ وقرأ ابن كثير وابو عمرو‏:‏ ليؤمنوا بالله ورسوله، ويعزروه ويوقروه ويسبحوه بالياء، والباقون بالتاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 14‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏10‏)‏ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏11‏)‏ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ‏(‏12‏)‏ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا ‏(‏13‏)‏ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏14‏)‏‏}‏

يبايعونك‏:‏ يوم الحديبية، اذ بايع الصحابة الرسولَ على الموت في نصرته‏.‏ انما يبايعون الله‏:‏ لأن المقصود من بيعة الرسول وطاعته طاعة الله‏.‏ يدُ الله فوق ايديهم‏:‏ نصره لهم اقوى من كل شيء‏.‏ نكث‏:‏ نقض‏.‏ المخلَّفون‏:‏ واحدهم مخلّف، وهو المتروك في المكان خلف الذين خرجوا منه‏.‏ الأعراب‏:‏ أهلُ البادية‏.‏ بورا‏:‏ هالكين‏.‏

ان الذين يبايعونك يا محمد على الثبات معك في نصر الاسلام وجهاد أعدائه، انما يبايعون الله، ويدُ الله فوق أيديهم، فمن نقض عهده منهم بعد ميثاقه، عاد ضرر نقضِه على نفسه، ومن وفى بالعهد فسيؤتيه الله أجراً عظيما في الدنيا والآخرة‏.‏

وسبب هذه البيعة ان الرسول الكريم لمّا أشيع قتل عُثمان في مكة قال‏:‏ لا نبرح حتى نناجزَ القوم‏.‏ ودعا الناس الى البيعة‏.‏ فبايعوه تحت الشجرة، وكانت بيعة الرضوان‏.‏ ولما رأت قريش عزم الرسول الكريم واصحابه على الحرب بدأت تتراجع وأرسلوا بعض الاشخاص يفاوضون النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعود من هذا العام، ويأتي في العام المقبل لأداء العمرة‏.‏ ووقع صلح الحديبية كما تذكر كتب التاريخ والسيرة‏.‏

ولما وقّع النبي الصلح مع قريش تحلل من احرامه ونحر‏.‏ ثم مكث مع اصحابه أياما في الحديبية عادوا بعدها الى المدينة‏.‏ وفي السنة التالية قصدوا مكة معتمرين، ودخلوها وهم يهلّلون ويكبرون قائلين‏:‏ لا اله الا الله وحده، نصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده‏.‏ واقاموا بمكة ثلاثة ايام يطوفون ويسعون وينحرون الهَدْي‏.‏ وقد سميت هذه العمرة عمرة القضاء لأنها تمت قضاءً عن العمرة السابقة التي منعهم فيها المشركون، ونزل فيها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 27‏]‏‏.‏

‏{‏سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الأعراب شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فاستغفر لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً‏}‏

عندما اراد النبي صلى الله عليه وسلم الخروج الى مكة معتمراً دعا جميع المسلمين للخروج معه فتخلّف البدو من جهينة ومزينة وغفار وأشجعَ وأسلم وغيرهم وتعللوا بأن اموالهم وأهليهم قد شغلتهم‏.‏ والحقيقةُ انهم كانوا ضِعاف الايمان، يخشون ان تقع الحرب‏.‏ وقالوا‏:‏ لن يرجع محمد ولا اصحابه من هذا السفر‏.‏ ففضحهم الله في هذه الآية لأنهم كاذبون يقولون خلاف ما يبطنون، وامر رسوله الكريم أن يرد عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً‏؟‏‏}‏ والله عليم بكل ما تعملون‏.‏

لم يكن تخلّفكم لما أبديتم من الاسباب، بل لأنكم قدّرتم ان الرسول والمؤمنين لن يعودوا أبدا‏.‏

‏{‏وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء‏}‏

زيّن الشيطان لكم ان الله لن ينصر النبيّ واصحابه، وقد خيب الله ظنكم، وصرتم قوما هالكين‏.‏ ومن لم يؤمن بالله ورسوله، فإنا أعتدنا له سعيراً من النار خالداً فيها‏.‏

ثم بين الله تعالى قدرته على ذلك وانه يفعل ما يشاء، لا رادّ لحكمه، فله السلطان المطلق والتصرف الكامل‏.‏ ومع ذلك كله فهو الغفور الرحيم ‏{‏وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏

قراءات‏:‏

قرأ حفص‏:‏ بما عاهد عليهُ الله بضم الهاء في عليه‏.‏ والباقون بكسرها‏.‏ وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وروح‏:‏ فسنوتيه بالنون، والباقون‏:‏ فسيؤتيه بالياء‏.‏

قرأ حمزة والكسائي‏:‏ ان اراد بكم ضُرا بضم الضاد‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ ضَرا بفتح الضاد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 17‏]‏

‏{‏سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏15‏)‏ قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏16‏)‏ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

مغانم‏:‏ جمع مغنم، وهو ما كسبه الإنسان في الحرب‏.‏ أولي بأس‏:‏ اصحاب قوة وشدة في القتال‏.‏ الحرج‏:‏ الضيق والاثم‏.‏ يعني هؤلاء ليس عليهم اثم اذا لم يقاتلوا‏.‏

‏{‏سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

سيقول هؤلاء الاعراب الذين تخلفوا عنكم ايها الرسول يوم خروجكم الى مكة، وتعللوا بشغلهم بأموالهم بأموالهم واهليهم‏:‏ دعونا نتبعكم ومخرج معكم الى غزو خَيبر، وذلك لأنهم توقعوا ما سيكون من مغانم‏.‏

‏{‏يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ الله‏}‏

يريدون بذلك تغيير وعدِ الله بتلك المغانم لمن خرج مع الرسول الى الحديبية‏.‏

قل لهم يا محمد‏:‏ لن تتّبعونا، فلقد حَكَم اللهُ من قبلُ بأن الغنائم لمن خرج مع رسول الله وأطاعه‏.‏ ولكنهم يتجرأون على الله ويقولون‏:‏ ان الله لم يأمركم بذلك، بل انكم تخشون ان نشارككم الغنيمة‏.‏

‏{‏بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏

ليس الأمر كما يقول هؤلاء المنافقون بل انهم لا يفقهون من امر الدين وتشريع الله الا قليلا‏.‏

ثم بين الله تعالى لهم ان باب القتال والجهاد لا يزال مفتوحا امامهم، ولذلك قال للرسول الكريم‏:‏ قل لهؤلاء المتخلفين عن الخروج من اهل البادية‏:‏ ستُدعون الى قتال قوم ذوي شدة وبأس في الحرب، فعليكم ان تخيّروهم بين امرين، إما القتل أو الاسلام، فان تستجيبوا لهذه الدعوة يُعظِم الله لكم الغنيمة في الدنيا والثواب في الآخرة، وان تعرضوا عنها كما اعرضتم من قبل ‏{‏يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً‏}‏‏.‏

ثم بين الله تعالى الأعذارَ المبيحة للتخلّف عن الجهاد في سبيل الله‏:‏ فالأعمى والأعرج والمريض معذورون ليس عليهم حرجٌ في عدم الخروج‏.‏

ثم رغّب في الاجهاد واطاعة الله ورسوله، وأوعد المتخلفين عنه بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة‏.‏

‏{‏وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً‏}‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي‏:‏ يريدون ان يبدلوا كَلِمَ الله بالجمع‏.‏ والباقون‏:‏ كلام الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 24‏]‏

‏{‏لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ‏(‏18‏)‏ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏19‏)‏ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ‏(‏20‏)‏ وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ‏(‏21‏)‏ وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏22‏)‏ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ‏(‏23‏)‏ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

تحت الشجرة‏:‏ وهي شجرة طلح كانت هناك، وهى المعروفة بالسَمُرة، بايع المؤمنون تحت ظلها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ السّكينة‏:‏ الطمأنينة، والأمن وسكون النفس‏.‏ فتحاً قريبا‏:‏ فتح خيبر، وقد حصل بعد انصرافهم من الحديبية‏.‏ مغانم كثيرة‏:‏ مغانم خيبر‏.‏ لتكون آية للمؤمنين‏:‏ وذلك علامة صدق الرسول الكريم، وحياطة من الله لرسوله وللمؤمنين، وليوقنَ المؤمنون الذين سيأتون ان رعايته تعالى ستعمُّهم أيضاً ما داموا على التقوى والصلاح‏.‏ وأخرى لم تقدروا عليها‏:‏ هي ما فتح الله على المسلمين فيما بعد من دولتي فارس والروم‏.‏ احاط الله بها‏:‏ حفظها الله لكم‏.‏

بعد ان بين الله حال المتخلفين فيما تقدم، عاد الى بيان حال المبايعين الذي ذكرهم بقوله تعالى في اول السورة‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 10‏]‏ فبيّن هنا رضاه عنهم من اجل تلك البيعة التي سميت «بيعة الرضوان» لما علم من صدق ايمانهم واخلاصهم في بيعتهم، وأنزل الله عليهم السَّكينة والأمن ورباطة الجأش، وجازاهم بالغنائم الكثيرة التي أخذوها من خيبر، وكانت ارضا ذات حقول وبساتين وعقار واموال قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المقاتلة فاعطى الفارس سهمين والراجل سهما‏.‏ روى ابن جرير عن سلمة بن الأكوع قال‏:‏ بينا نحن قائلون، اذ نادى منادي رسول الله، ايها الناس‏:‏ البيعة البيعة، نزل روح القدس‏.‏ فثرنا الى رسول الله وهو تحت شجرة سمرة فبايعناه‏.‏ فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ فبايع النبي لعثمان باحدى يديه على الأخرى، وكانت قد انتشرت شائعة أن عثمان قد قُتل، فبايعوا رسول الله على الموت في سبيل الله‏.‏

ثم بين الله ان ما آتاهم من الفتح والمغانم ليس هو الثواب وحده، بل سيأتيهم جزاء اكبر‏.‏‏.‏ وانما عجّل لكم هذه لتكون آية على صدق رسوله الكريم وحياطته له، وحراسته للمؤمنين وليثبتكم على الاسلام، وليزيدكم بصيرة، وسيؤتيكم مغانم كثيرة فيما بعد من فارس والروم وغيرهما ما كنتم تقدرون عليها لولا الاسلام، وهذا معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأخرى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً‏}‏‏.‏

ثم بين الله تعالى انه لو قاتلكم اهل مكة ولم يصالحوكم في الحديبية لانهزموا ولم يجدوا من ينصرهم او يدافع عنهم‏.‏

‏{‏سُنَّةَ الله التي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً‏}‏ تلك هي سنة الله من غلبة المؤمنين، وخذلان الكافرين‏.‏ ثم ذكر منة الله على عباده المؤمنين بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً‏}‏ فصان كلا الفريقين عن الآخر، وأوجد صلحا فيه خيرة للمؤمنين، وعافية لهم في الدنيا والآخرة‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابو عمرو‏:‏ يعملون بصيرا، بالياء، والباقون‏:‏ بما تعملون بالتاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 26‏]‏

‏{‏هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏25‏)‏ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏26‏)‏‏}‏

الهدي‏:‏ ما يقدَّم قربانا لله في مناسك الحج والعمرة من الانعام‏.‏ معكوفا‏:‏ محبوسا لهذا الغرض‏.‏ محله‏:‏ المكان الذي يسوغ فيه نحره وهو مِنى‏.‏ أن تطؤوهم‏:‏ ان تقتلوهم‏.‏ المعرّة‏:‏ المكروه والمشقة‏.‏ لو تزيّلوا‏:‏ لو تفرقوا وتميزوا‏.‏ الحمية‏:‏ الأنَفَة، والعصبيّة‏.‏ وحمية الجاهلية‏:‏ حمية في غير موضعها لا يؤيدها دليل ولا برهان‏.‏ كلمة التقوى‏:‏ هي لا اله الا الله، والسير على هدى الاسلام‏.‏

بعد ان بين الله أنه كفّ أيدي المؤمنين عن الكافرين، وكف أيدي الكافرين عن المؤمنين، ذكر هنا ان المكان هو البيتُ الحرام الذي صدّوا المؤمنين عنه، فيقول‏:‏ ان اهل مكة هم الذين كفروا ومنعوكم من دخول المسجِد الحرام ومنعوا الهَدْيَ الذي سُقتموه معكم تقرباً الى الله من بلوغِ مكانه الذي يُنحر فيه‏.‏

ثم وضّح اكثر أن في مكة مؤمنين ومؤمناتٍ لا تعلمونهم، ولولا كراهةُ أن تصيبوهم فتقتلوهم بغير علم بهم، فتكونوا قتلتم إخوانكم فيلحقكم من اجل قتلهم ‏{‏مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ أيْ عار وخزي- لسلطانكم عليهم‏.‏

ثم اكد ميزة هذا الصلح العظيم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ‏}‏ أي ليفتح الباب أمام الذين يرغبون في دخول دين الله‏.‏ وبين بوضوح بأنه لو امكن تميُّز المسلمين من الكفار في مكة لسلّط المؤمنين على الكافرين ولعاقبهم عقاباً أليما‏.‏ فهؤلاء قد جعلوا في قلوبهم أنَفَة الجاهلية، لذا أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وألزمهم كلمة التقوى ‏(‏يعني العملَ بالتقوى‏)‏ وضبْط النفس، فقبلوا الصلح في الحديبية على الرغم من كبرياء المشركين وحَمِيّتهم وعتوّهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 29‏]‏

‏{‏لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ‏(‏27‏)‏ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ‏(‏28‏)‏ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏29‏)‏‏}‏

الرؤيا‏:‏ ما يراه النائم‏.‏ صدَق الله رسوله الرؤيا‏:‏ صدقه فيما رآه في نومه ولم يكذبه‏.‏ محلّقين رؤوسكم ومقصرين‏:‏ بعضكم يحلق شعره كله، وبعضكم يقصر منه‏.‏ ليُظهره على الدين كله‏:‏ ليعليه على سائر الأديان‏.‏ فضلا‏:‏ ثوابا‏.‏ سِيماهم‏:‏ علامتهم‏.‏ مثَلهم‏:‏ وصفهم‏.‏ شَطْأه‏:‏ شطأ الزرع ما يتفرع عليه من أغصان وورق وثمر‏.‏ آزره‏:‏ أعانه وقوّاه‏.‏ وهو من الزؤازرة وهي المعاونة‏.‏ استوى‏:‏ استقام‏.‏ على سوقه‏:‏ على قصبه وأصوله، والسوق جمع ساق‏.‏

رأى النبي عليه الصلاة والسلام في منامه وهو في المدينة قبل ان يخرج الى الحديبية رؤيا أنه يدخلُ المسجدَ الحرام هو واصحابه آمنين، منهم من يحلق شعره كله، ومنهم من يقصّر منه‏.‏ فأخبر بذلك أصحابه آمنين، منهم من يحلق شعره كله، ومنهم من يقصّر منه‏.‏ فأخبر بذلك أصحابه، ففرحوا وحسبوا انهم داخلون مكة في ذلك العام الذي خرجوا فيه الى الحديبية‏.‏ فلما انصرفوا الم يدخلوا مكة شقَّ ذلك عليهم، وقال المنافقون‏:‏ أين رؤيا النبي التي رآها‏؟‏ فانزل الله تعالى هذه الآية‏.‏ ودخلوا في العام المقبل‏.‏ وهذا معنى ‏{‏لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏{‏فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً‏}‏ هو صلح الحديبية وفتح خيبر‏.‏

ثم أكد صدقَ الرسول الكريم في الرؤيا بقوله‏:‏

‏{‏هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وكفى بالله شَهِيداً‏}‏

وهذا وعدٌ من الله حقّقه للرسول الكريم في حياته ثم انتشر الاسلام في جميع أرجاء الأرض في اقصر مدة‏.‏

وبعد ان بين الله تعالى انه ارسل رسوله بالهدى ودين الحق الذي هو الاسلام، ليظهره على جميع الاديان- أردف ذلك ببيان أوصاف الرسول الكريم واصحابه‏.‏ فوصفهم بأوصافٍ كلها مدائح لهم، وذكرى لمن بعدهم‏.‏ بتلك الاوصاف سادوا الأمم، وامتلكوا الدول، ونشروا الاسلام، وقبضوا على ناصية العالم‏.‏ وهذه الصفات هي‏:‏

1- انهم أشدّاء على من خالف دينهم وبادأهم العداء، وهم متراحمون متعاطفون فيما بينهم‏.‏

2- انهم جعلوا الصلاة والاخلاصَ لله طريقتهم في أكثر أوقاتهم، لذلك تُبِصرهم راكعين خاشعين كثيرا‏.‏

3- وانهم بذلك يطلبون ثوابا عظيما من الله تعالى ورضوانا منه‏.‏

4- ذلك وصفهم البارز في التوراة‏.‏

5- وفي الانجيل ضرب بصفتهم المثل فقال‏:‏ سيخرج قوم ينبُتون نبات الزرع، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر‏.‏

ذلك انهم في بدء الاسلام كانوا قليلي العدد ثم كثروا وارتقى أمرهم يوما بعد يوم حتى أعجب الناسُ بهم، كصفة زرع اخرج اول ما ينشقّ عنه، فآزره فتحوّل من الدِقة الى الغِلظ، فاستقام على أصوله، يُعجِب الزراعَ بقوّته واكتماله‏.‏ وكذلك كان حال المؤمنين لِيَغيظَ الله بهم وبقوّتهم الكفار‏.‏

‏{‏وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً‏}‏

وقد وفى سبحانه وتعالى بوعده ونصر رسوله وجُندَه، وهزم الأحزابَ وحده‏.‏

بهذه الأوصاف الجليلة يختم هذه السورة العظيمة، وهذه اوصاف الأمة الاسلامية أيام عزها، يوم كان المسلمون مستمسكين بالعروة الوثقى، سائرين على هُدى دينهم بحق واخلاص‏.‏ فانظر الآن وتأمل في حال المسلمين‏:‏ يحيط بهم الذل والخوف من شرذمة من اليهود تجمعت في فلسطين، اغتصبت ديار الاسلام، وهي تضرب العرب في لبنان صباح مساء وتبيد الناس ابادة، وتهدم ما يصنع العرب من ادوات للتقدم حتى وصلت الى ضرب المفاعل الذري في بغداد، ويصرخ زعماؤها بتبجح اليهود المعروف انها لن تسمح للعرب أن يقيموا اية آلة تجعلهم يتقدمون صناعياً وعلميا‏.‏ كل هذا وحكام العرب خائفون ساكتون كأن شيئا لم يحدث، وزعماؤهم يتباكون ويطلبون من أمريكا عدوّ العرب الأول أن تحلّ لهم قضيتهم‏!‏ يا للذل والعار‏!‏ كيف نستطيع ان نواجه ربنا غداً يوم نلقاه‏!‏ ما هي العلة التي نتعلل بها لرسولنا الكريم‏!‏ لعل الله ان يبدل الحالَ غير الحال، ويخضّر الزرعُ بعد ذبوله، وتعود الأمة الى سيرتها الأولى، متمسكة بدينها الحنيف، مجتمعة الكلمة، موحدة الهدف‏.‏ واللهَ اسأل ان يلهمنا الصواب والرشد والرجوع الى ديننا الحنيف‏.‏ وعند ذلك ينطبق علينا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً‏}‏ والحمد لله رب العالمين‏.‏

سورة الحجرات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏1‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ‏(‏2‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏3‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏4‏)‏ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏

لا تقَدموا بين يدي الله ورسوله‏:‏ لا تعجلوا بالأمر قبل ان يأمر به الله ورسوله‏.‏ لا ترفعوا اصواتكم‏:‏ غضّوها وتكلموا بهدوء ولين‏.‏ امتحنَ الله قلوبهم‏:‏ طهّرها ونقاها واخلصها للتقوى‏.‏ الحجرات‏:‏ مكان سكن النبي الكريم، كان لكل زوجة حجرة، بيت‏.‏ من وراء الحجرات‏:‏ من خارجها‏.‏

يا أيها الذين آمنوا لا تعجَلوا بأي أمر قبل ان يقضيَ الله ورسوله لكم فيه، فلا تقترحوا على الله ورسوله أي شيء قبل ان يقول الله ورسوله فيه، واتقوا الله وراقِبوه خَشيةَ ان تقولوا ما لم يأذن لكم الله ورسوله به‏.‏ ان الله سميع لما تقولون، عليم بما تريدون‏.‏

في هذه الآية الكريمة وما يليها تأديبٌ للصحابة وتعليم وتهذيب، فقد طلَب الله اليهم ان ينقادوا لأوامر الله ونواهيه، ولا يعجَلوا بقولٍ أو فعل قبل الرسول الكريم‏.‏

ثم أدّبهم في الآية الثانية في الحديث والخطاب مع رسول الله، وأ، يوقّروه، فلا يرفعوا أصواتَهم فوق صوت النبي إذا تكلم، بل يخفَضوها ولا يتكلّموا معه كما يتكلم بعضهم مع بعض‏.‏ وأن يتأدبوا في مجاطبته فلا تقولوا‏:‏ يا محمد، بل قولوا‏:‏ يا نبيّ الله، او يا رسول الله، وبكل إجلال وتعظيم، حتى لا تبطُل أعمالكم وانتم لا تشعرون‏.‏

ثم نوه الله تعالى بتقواهم، وغضّهم أصواتَهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعبير لطيف فقال‏:‏

‏{‏إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏‏.‏

هنا يرغّبهم الله ويتلطف بهم بعد ذلك التحذير المخيف، ويقول‏:‏ ان الذين يخفضون اصواتهم ف يمجلس رسول الله، إجلالاً له، اولئك قد طهّر الله قلوبهم ونقّاها وأخلصَها للتقوى، فلهم مغفرةٌ لذنوبهم، واجر عظيم لتأدّبهم وغضّ اصواتهم وتقواهم‏.‏

‏{‏إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

كان الأعراب ‏(‏وهم قريبو عهد بالجاهلية‏)‏ اكثرهم جُفَاة يأتون الى المدينة فيجتمعون عند حجُرات ازواج رسول الله، وينادونه بأصواتهم المزعجة‏:‏ يا محمد، اخرج الينا‏.‏ وكان هذا في العام التاسع من الهجرة وهو عام «الوفود» لدخول الناس في دين الله افواجا‏.‏ فكان ذلك يؤذي النبيَّ الكريم عليه الصلاة والسلام‏.‏

فأدّبهم الله بهذا القرآن الكريم، ووصفهم بأن أكثرهم لا يعقِلون، ثم بين لهم ان النداء بهذا الجفاء منافٍ للأدب والتوقيرِ اللائق بشخص النبي الكريم، وعلّمهم أن الأفضلَ لهم ان يصبروا وينتظروا حتى يخرجَ إليهم، ثم أتبع ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

هذه السورة كما مرّ في المقدمة من أواخر السور نزولا، وفيها على قِصَرها قواعدُ وتعاليم للمؤمنين، وترسيخٌ لايمانهم، وتأديبٌ لهم ليتهيأوا لقيادة العالم‏.‏

والحُجرات التي ورد ذكرها في الآية الكريمة هي تسعُ حجرات كانت لكل زوجة حجرة من جريد النخل، وعلى أبوابها المسوح من شعر أسود‏.‏ وكانت غير مرتفعة يُتناول سقفها باليد، وفي غاية البساطة‏.‏ قال سعيد بن المسيب وهو اكبر التابعين في المدينة‏:‏ وددتُ أنهم تركوها على حالها حتى يراها الناس بما فيها من البساطة، فيروا ما اكتفى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، فيكون ذلك مما يزهِّد الناسَ في التفاخُر والتكاثر‏.‏

وقد أُدخلت هذه الحجرات في عهدِ الوليدِ بن عبد الملك بأمرِه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى الناس لذلك‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ يعقوب‏:‏ لا تقدموا بفتح التاء والدال، والباقون‏:‏ لا تُقْجموا بضم التاء وكسر الدال المشدَّدة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

الفاسق‏:‏ الخارج عن حدود الدين‏.‏ بنبأ‏:‏ بخبر‏.‏ قال الراغب في مفرداته‏:‏ لا يقال للخبر نبأ الا اذا كان ذا فائدة عظيمة‏.‏ فتبينوا‏:‏ فتثبتوا، وفي قراءة فتثبتوا‏.‏ بجهالة‏:‏ بغير علم‏.‏

تقرر هذه الآية الكريمة مبدأً عظيماً للمؤمنين‏:‏ كيف يتلقَّون الأنباء وكيف يتصرفون بها، وأن عليهم ان يتثبَّتوا من مصدرها‏.‏ وقد خُصَّ الفاسقُ لأنه مظنّةُ الكذب، اما اذا كان مصدر الخبر من المأمون في دينه وخلقه فإنه يؤخذ بأخباره، ولا يجوز ان يُشك فيه، والا تعطّلت المصالح، وتزعزعت الثقة بين المؤمنين، وتعطل سير الحياة وتنظيمها في الجماعة‏.‏ والاسلام يدعُ الحياة تسير في مجراها الطبيعي، ويضع الضماناتِ والحواجز فقط لصيانتها لا لتعطيلها‏.‏ وقد روي في سبب نزول هذه الآيات روايات قَبِلها كثير من المفسرين وضعّفها بعضهم، ومنهم الرازي‏.‏ والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي‏:‏ فتثبتوا، من التثبت والتريث في الأمور، وقرأ الباقون‏:‏ فتبينوا، من التبين والتريث، والفعلان قريبان من بعض‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 8‏]‏

‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ‏(‏7‏)‏ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏8‏)‏‏}‏

لَعَنِتُّم‏:‏ وقعتم في تعب ومشقة‏.‏ الفسوق‏:‏ الخروج عن الحد كالكذب والغيبة وغيرها‏.‏ العصيان‏:‏ عدم الانقياد الى الحق‏.‏ الرشاد‏:‏ اصابة الحق واتباع الطريق السوي‏.‏

بعد ان حذّرهم الله تعالى من التعجّل في الأمور، ووضّح كيف يتلقون الأخبار ويتصرفون بها، يّن لهم هنا أمراً عظيماً جدا، ونعمة كبيرةً ورحمة لهم، تعيش بينهم ليدركوا قيمتها وينعموا بوجودها فقال‏:‏ ‏{‏واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله‏}‏ فاقدُروه حقَّ قدره، واصدُقوه، فإنه لو يطيعكم في كثير من الامور، لوقعتم في المشقة والهلاك‏.‏

‏{‏ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأيمان وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان‏}‏‏.‏

وفي هذا توجيه من الله تعالى إلى نعمة الايمان الذي هداهم اليه، وكشف لهم عن جماله، وجعلهم يكرهون الكفرَ والفسوق والعصيان‏.‏‏.‏ وكلّ هذا من رحمته الواسعة‏.‏ ثم بين ان من يتصف بهذه الصفات الحسنة ويتجنب الصفاتِ السيئة لهو من اهل الرشاد السالكين الطريقَ السوي‏.‏

‏{‏فَضْلاً مِّنَ الله وَنِعْمَةً والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏

وكل هذا العطاء الذي منحه لكم ربّكم انما لكم تفضُّل منه عليكم وإنعام كبير من لدنه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏

‏{‏وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ‏(‏9‏)‏ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

الطائفة‏:‏ الجماعة اقل من الفِرقة‏.‏ فأصلحوا بينهما‏:‏ بأية طريقة‏:‏ بالنصيحة، بالتفاوض، بالتهديد، بكل وسيلة‏.‏ فإن بغتْ‏:‏ فان تعدت وجارت‏.‏ تفيء‏:‏ ترجع‏.‏ أمر الله‏:‏ الصلح فأصلحوا بينهما بالعدل‏:‏ بازالة آثار القتال والخلاف، وبضمان ما تلف بحيث يكون الحكم عادلا‏.‏ وأقسطوا‏:‏ واعدلوا‏.‏ الاخوة‏:‏ في النسب، وقد جعلت الاخوة في الدين كالاخوة في النسب‏.‏ والاخوان‏:‏ في الصداقة‏.‏

في هاتين الآيتين تشريعٌ عملي عظيم لصيانة المجتمع الاسلامي، وحمايته من الخصام والتفكك والتمزق‏.‏ فبعدّ ان حذّر الله تعالى من النبأ الصادر عن الفاسق، وحثّ على التوثق من مصادر الأخبار، وعدم العَجلةِ والاندفاع وراء الحَمِيّة والحماسة الطائشة قال‏:‏ إن حصل أن اقتتلتْ طائفتان من المؤمنين فإن على المؤمنين ان يقوموا بالاصلاح بينهما‏.‏ فان تعدت احدى الطائفتين على الاخرى ولم تقبل الصلح، فعليهم ان يقاتلوا تلك التي تتعدى حتى ترجع الى حكم الله‏.‏ فان قبلت الصلح ورجعت الى حكم الله، فأصلِحوا ايها المؤمنون بينهما بالعدل والانصاف حتى لا يتجدد القتال مرة اخرى‏.‏

ثم امرنا الله تعالى بالعدل في كل الأمور فقال‏:‏

‏{‏وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين‏}‏

واعدِلوا ايها المؤمنون بين الناس جميعا في كل الأمور، ان الله يحب العادلين في جميع اعمالهم‏.‏

انما المؤمنون بالله ورسوله إخوةٌ جَمَعَ الايمانُ بين قلوبهم ووحّدهم‏.‏ وفي الحديث الصحيح‏:‏ «المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يُسْلمه، ولا يَعيبُه، ولا يخذُله» فأصلحوا بين اخويكم رعايةً لأخوة الايمان، ‏{‏واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ واجعلوا لأنفسكم وقاية من عذاب الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه حتى يرحمكم، لتكونوا إخوة على الحب والسلام والتعاون والوحدة في مجتمعكم، وبذلك تكونون أقوياء أعزاء تحت راية الاسلام‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ يعقوب‏:‏ فاصلحوا بين اخوتكم، بالجمع‏.‏ والباقون‏:‏ بين أخَويكم بالتثنية‏.‏

فان قاتلَ جماعة المؤمنين الفئةَ التي لم تقبل الصلح، فإنه لا يجوز ان يُجهز على جريح، ولا يقتل اسير، ولا يجوز ان يُتعقّب من هرب وترك المعركة، ولا تؤخذ اموال البغاة غنيمة، لأن الغرضَ من قتالهم ردُّهم الى صفّ المؤمنين، وضمُّهم إلى لواء الأخوّة الاسلامية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

لا يسخر قوم من قوم‏:‏ لا يحتقر احد منكم أخاه بذكر عيوبه واظهار نقائصه‏.‏ يقال سخر به ومنه، هوئ به ومنه‏.‏ القوم‏:‏ شاع اطلاقه على الرجال دون النساء‏.‏ ولا تلمزوا انفسكم‏:‏ لا يعيب احد منكم اخاه، وعبّر بأنفسكم كأنهم جميعا نفسٌ واحدة فاذا عابَ المؤمن أخاه المؤمنَ كأنه عاب نفسَه‏.‏

يريد الله تعالى ان يكون المجتمع الاسلامي مجتمعاً فاضلا، فأدّبنا بهذا الأدب الرفيع، فلكل انسان كرامتُه، وهي من كرامة الجميع، فإذا حصل ضرر لأي فرد فانه ضرر للناس كلهم‏.‏ لذلك ينهى الله تعالى ان يسخَرَ رجالٌ من رجال آخرين لعلّهم خير منهم عند الله، او نساء من نساءٍ لعلّهن خير منهن عند الله‏.‏

‏{‏وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ‏}‏

لا يعب بعضُكم بعضا بقول او إشارة على وجه الخفية، فانكم أيها المؤمنون كالجسدِ الواحد ان اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى‏.‏ وهذا حديث صحيح رواه مسلم‏.‏

‏{‏وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب‏}‏

ولا يدعو بعضكم بعضاً بالألقاب المستكرَهة، ولا تدعوا احدا بما لا يحبّ من الألقاب القبيحة‏.‏

اما الألقاب اللطيفة التي تدل على معانٍ حسنة فلا مانع من استعمالها كما قيل لأبي بكر عتيق، ولعمر بن الخطاب‏:‏ الفاروق، ولعثمان‏:‏ ذو النورين الخ‏.‏‏.‏

‏{‏بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان‏}‏

بئس الاسم ان تُسمَّوا فاسقين بعد ان تكونوا مؤمنين‏.‏ ومن لم يتبْ ويرجع عما نهى الله عنه فأولئك هم الظالمون الذين ظلموا أنفسَهم وغيرهم بعصيانهم أوامر الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏

اجتنبوا‏:‏ ابتعِدوا‏.‏ الاثم‏:‏ الذنب‏.‏ ولا تجسّسوا‏:‏ اصلها تتجسسوا بتائين‏:‏ لا تبحثوا عن عورات الناس ومعايبهم‏.‏ الغيبة‏:‏ ذِكر الانسان بما يكره في غيابه‏.‏

في هذه الآية الكريمة أدبٌ رفيع للمؤمنين حتى يعيشوا في مجتمع فاضل، تكون فيه حرياتُهم مكفولة، وحقوقهم محفوظة، فلا يؤخذون بالظن، ولا يحاكَمون بريبة، فالانسان بريء حتى يثبت عليه الجرم‏.‏

روى الطبراني عن حارثة بن النعمان ان النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «اذا ظننتَ فلا تحقّق» وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه قال‏:‏ «لا تظننّ بكلمة خرجتْ من أخيك إلا خيرا، وانتَ تجدُ لها في الخير محملا»‏.‏

يا ايها الذين آمنوا‏:‏ ابتعِدوا عن كثير من ظنّ السوء بالناس، إن بعض الظن إثمٌ يستوجب العقوبة‏.‏ وهذا تهذيبٌ رفيع لنا يرفع من مستوى مجتمعنا، ويديم الوئامَ والمودة بيننا، ويزيد توثيقَ رباط المجتمع الاسلامي الفاضل قُوةً ومنعة‏.‏

‏{‏وَلاَ تَجَسَّسُواْ‏}‏

وهذا أمر ثانٍ من أوامر الله العليا يُبعدنا فيه عن الاعمال الدنيئة، لتطهير قلوبنا ونظافة اخلاقنا، حتى يكفُلَ حرياتِ الناس وحرماتِهم وكرامتهم، التي لا يجوز ان تُنتهَك ولا تمسّ بحال من الاحوال‏.‏ فما دام الانسان في بيته قد ستر نفسه عن الناس فلا يجوز لنا ان نتتبّع عوراتِه، ولا البحث عن سرائره، لأن الاسلام يريد ان يعيش الناس آمنين على أنفسهم مطمئنين في بيوتهم، ولنا الظواهُر، ولا يجوز لنا أن ن تعقب بواطن الناس وما أخفوه‏.‏

قال عبد الرحمن بن عوف‏:‏ حرستُ مع عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بالمدينة، إذ تبين لنا سراجٌ في بيتٍ بابه مغلقٌ على قوم لهم اصوات مرتفعة ولَغَط، فقال عمر‏:‏ هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف، وهم الآن يشربون، فما ترى‏؟‏ قلت‏:‏ أرى أنّا قد أتينا ما نهى الله عنه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَجَسَّسُواْ‏}‏ وقد تجسّسنا‏.‏ فانصرفَ عمر وتركهم‏.‏

وفي الحجيث الصحيح‏:‏ «من ستر عورةً فكأنما استحيا موْؤدة من قبرِها» رواه ابو داود والنسائي‏.‏

وفي الحديث ايضا عن سفيان الثوري عن معاوية بن ابي سفيان‏:‏ قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «انك إن اتبعت عوراتِ الناس أفسدتَهم أو كِدتَ تفسدهم» رواه ابو داود‏.‏

‏{‏وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ‏}‏

ولا يذكرْ بعضكم بعضا بما يكره في غيبته ولو بإشارة او نحو ذلك، لما في ذلك من اذى للناس‏.‏ والمراد بما يكره‏:‏ ما يكرهه في دينه او دنياه او خلُقه او خلْقه او ماله او ولده او زوجته وفي كل ما يؤذيه‏.‏

قال الحسن البصري‏:‏ الغيبة ثلاثة اوجهٍ كلّها في كتاب الله‏:‏ الغيبة، والافك والبهتان‏.‏

فأما الغيبة‏:‏ فهي ان تقول في أخيك ما هو فيه‏.‏ واما الافك‏:‏ فان تقول فيه ما بلغك عنه وقد يكون ذلك غير صحيح‏.‏ واما البهتان‏:‏ فان تقول فيه ما ليس فيه‏.‏ والغيبة من الجرائم الكبيرة، والذي يريد التوبة منها عليه ان يستغفر لمن اغتابه، او يذهب اليه ويطلب العفو منه‏.‏

ولبشاعة الغيبة، وكراهتها يعبّر عنها الله تعالى بهذا التعبير العجيب للتنفير منها والبعد عن إيذاء الناس فيقول‏:‏

‏{‏أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ‏}‏

تصوروا هذا التمثيلَ الفظيع الذي تتأذى منه النفوس‏.‏ وقد وردتْ أحاديثُ كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم تنفر المسلمين من الغيبة، ليرفع الله من نفوسهم ويطهرها، ويبني مجتمعا طاهرا مثاليا‏.‏

واستثنى العلماء من تحريم الغيبة، الملحدَ في الدين، والحاكمَ الجائر، والفاسقَ المجاهِر بالفسق، وتجريحَ الشاهد عند القاضي، والمتظلّمَ في أمر هام، وراوي حديث الرسول الكريم، ‏{‏لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 148‏]‏‏.‏

ثم بعد ذلك يأتي تعبير لطيف ‏{‏واتقوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ‏}‏ بابُه دائماً مفتوح للتوبة، وهو مع كل ما يأتيه الناس من مخالفات ومعاصي رحيم يقبل التوبة فلا تقنطوا من رحمة الله‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ يعقوب‏:‏ ميتا بتشديد الياء‏.‏ والباقون‏:‏ ميتا باسكان الياء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 18‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ‏(‏13‏)‏ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏14‏)‏ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ‏(‏15‏)‏ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏16‏)‏ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏17‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

الشعوب‏:‏ جمع شعب وهو الحيّ العظيم المنتسب الى أصل واحد كربيعة ومُضَر، والقبيلة دونه، وسُمي الشَعب شَعباً لتشعب القبائل منه كتشعب الاغصان من الشجرة‏.‏ الأعراب‏:‏ سكان البادية‏.‏ آمنا‏:‏ صدّقنا بما جئت به من الشرائع، فالايمان هو التصديق بالقلب‏.‏ اسلمنا‏:‏ انقدْنا لك ونطقنا بالشهادتين وعملنا بما تأمرنا به‏.‏ لا يَلِتْكم‏:‏ لا ينقصكم‏.‏ يمنّون عليك أن أسلموا‏:‏ يذكرون ذلك ذِكر من اصطنع لك صنيعة، واسدى اليك معروفا‏.‏

بعد ان أدّب الله تعالى المؤمنين بالآداب الرفيعة بيّن هنا ان الناسَ جميعاً من أبٍ واحد وأمٍ واحدة، فكيف يسخَر الأخ من اخيه او يغتابه او يظلمه‏!‏‏؟‏ وبين للناس ان القرآن يدعو الى أمةٍ انسانية واحدة، وعالمٍ واحدٍ يسوده العدل والمحبة، واعلن هنا حقوقَ الانسان بصرف النظرِ عن لونه وجنسه، فالناس إخوة في النسَب، كرامتُهم محفوظة، والانسان مخلوق الله المختار، وهو خليفته في الارض‏.‏

يا أيها الناس‏:‏ إنّا خلقناكم متساوين من اصلٍ واحد هو آدم وحواء، وجعلناكم جموعا عظيمة، شعوباً وقبائل متعددة، لتتعارفوا وتتعاونوا على ما فيه خيرُكم وصلاحكم، إن أكرَمَكُم عند الله وأرفعَكم منزلة في الدنيا والآخرة هو اتقاكم له وأنفعكم لخلْقِه، ‏{‏إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ‏}‏ بكم وباعمالكم وبباطن احوالكم، فاجعلوا التقوى زادَكم لمعادِكم‏.‏

ثم بعد ان بيّن الله لنا أن الناس جميعاً إخوة لأمٍ وأبٍ وحثّنا على التقوى والعمل الصالح، بين هنا ان الإيمان وحده لا يكفي، والايمانُ هو التصديق بالقلب، وان الاسلام هو التصديقُ والطاعة الظاهرة بأداء الواجبات واجتناب النواهي‏.‏ وكان في زمن الرسول الكريم أناسٌ من الاعراب في إيمانهم ضَعف، وقلوبهم مشغولة تريد المغانم وعرض الدنيا‏.‏ فقال الله تعالى‏:‏

‏{‏قَالَتِ الأعراب آمَنَّا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

قالت الأعراب بألسنتهم‏:‏ آمنا، فقل لهم يا محمد‏:‏ إنكم لم تؤمنوا، لأن قلوبكم لم تصدّق ما نطقتم به، ولكن قولوا أسلمنا وانقدنا ظاهراً لرسالتك، لأن الإيمان لم يدخل في قلوبكم بعد‏.‏ وإن تطيعوا اللهَ ورسوله صادقين لا يَنقصُكم الله من ثواب اعمالكم شيئا‏.‏

ثم يؤكد الله رحمته ولطفه بعباده فيقول‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ سَتّارٌ للهفوات غفارٌ للزلات، فسارِعوا الى التوبة‏.‏

ثم بين الله تعالى حقيقة الايمان بقوله‏:‏

‏{‏إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله أولئك هُمُ الصادقون‏}‏‏.‏

المؤمنون حقاً هم الذين صدّقوا ولا تشوبهم الريبة في عقائدهم، ويبذلون النفسَ والنفيس لإحقاقِ الحق وإزهاق الباطل، أولئك هم الصادقون‏.‏

قل لهم يا محمد‏:‏ اتخبرون الله بأن يصدقكم، واللهُ وحده يعلم ما في قلوبكم، ويعلم كلَّ ما في السموات والأرض، ‏{‏والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

‏{‏يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ‏}‏

يعدون إسلامَهم ومتابعتهم لك منةً يطلبون منك أجرَها‏.‏

‏.‏ فقد قال بعضهم‏:‏ جئناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان‏.‏ ‏{‏قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ‏}‏ بل الله تعالى هو الذي يمنّ عليكم إذ هداكم الى الايمان، ان كنتم صادقين في دعواكم‏.‏

ثم اكد الله تعالى الإخبار بعلمه بجميع الكائنات، وبصَرِه بأعمال المخلوقات، وختم بذلك هذه السورة الكريمة فقال‏:‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏

فهو يعلم الايمان الصادق، والكاذب، ويميز بين الاعمال التي يطلبون بها الدنيا، والأعمال التي يقصدون بها وجه الله‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ اهل البصرة‏:‏ لا يألتكم بالهمزة، والباقون‏:‏ لا يَلتكم بلا همزة، وهما لغتان‏:‏ ألت يألت، ولات يليت‏.‏ واللغتان في القرآن الكريم‏.‏ ففي سورة الطور ‏{‏وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 21‏]‏‏.‏